كم من سائرٍ إلى الله فتنته الأموال، وكم من طالبٍ لجناب الله عطّلته أهل البطالة. في رحلة السير إلى الله، تظهر المشتتات والعوائق، ولكن المؤمن الحق هو من يبقى قلبه معلقًا بخالقه، لا يلتفت عنه أبدًا.
حديث جبل "جُمدان"
يروي لنا التاريخ قصة ذات معنى عميق، حين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريقه، مرَّ على جبل يُسمى "جُمدان"، فوقف وقال لأصحابه:
"أسرعوا... سبق المُفرِّدون."
فتعجب الصحابة وسألوا: "يا رسول الله، ومن المُفرِّدون؟" فأجابهم النبي الكريم صلى الله عليه وسلم:
"الذاكرون الله كثيرًا والذاكرات."
الذاكر بين الناس كالجبل بين الجبال
لم يكن اختيار جبل "جُمدان" عشوائيًا، فهذا الجبل كان شامخًا، عاليًا، وكل الجبال التي حوله صغيرة بجانبه. لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يضرب لنا مثلاً عظيمًا:
إن الذاكر لله بين الناس هو كجبل جُمدان بين الجبال.
كما أن هذا الجبل فريد في شموخه وعلوه، يبرز بين ما حوله، كذلك الذاكر لله، فهو فريد في منزلته وقدره عند الملائكة وفي الملأ الأعلى، أعظم قدرًا وسلطانًا من كل الناس.
الذاكر بين الناس هو ياقوتة بين الحجر، يتميز ببريقه وقيمته وسط من حوله.
"أسرعوا": دعوة لترك الملهيات
عندما قال النبي صلى الله عليه وسلم "أسرعوا"، لم تكن دعوة لسرعة المشي الجسدي فحسب، بل كانت دعوة روحية سامية:
أسرعوا حتى لا تلتفتوا إلى مظاهر الكون وشواهق القمم.
أسرعوا لكي لا تنشغلوا بالخلق عن الخالق.
أسرعوا وفرّوا إلى الله، لا من الله.
هي دعوة لترك الالتفات إلى الأكوان ما دمنا في طلب المُكوِّن سبحانه وتعالى. أنت أعلى من الجبل بهمتك، وأسمى بقلبك المتصل بالله.
كمال الهمة في سيد الخلق ﷺ
لقد سبق "المُفرِّدون" بذكرهم لله، وسبقهم جميعًا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو الفردُ العلم في هذا السباق. تجلت هذه الهمة العالية في أسمى صورها في رحلة الإسراء والمعراج:
أُسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وعُرج به في السماوات سماءً سماء.
كل العوالم والملائكة والأنبياء رحبوا به، وكل سماء تمنت أن يسكنها محمد، وكل مقام تمنى أن يكون مقامه.
الكون كله تبرّج له في تلك الليلة الغرّاء، ومع كل هذا الجمال والجلال، لم يلتفت قلبه الشريف عن مراده الأسمى.
وعندما وصل إلى حضرة المتعال، ونظر الحق في عينيه، لم يجد فيهما إلا طهر الشهود، فكان الثناء الرباني الخالد:
"مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ"
هذه أمدوحة قرآنية ليس بعدها مدح، فهي شهادة بكمال الهمة وبلوغ المرام في طلب الحق سبحانه.
خليل الرحمن واليقين الكامل
وكذلك كان حال خليل الله إبراهيم عليه السلام وهو في قلب النار، حين جاءه جبريل يسأله: "ألك حاجة؟" فكان جوابه قمة في اليقين وعدم الالتفات لغير الله:
"أما منك فلا، وأما من الله فحسبي الله ونعم الوكيل... علمه بحالي يغني عن سؤالي."
هذا هو العبد الذي اتسعت بصيرته، واكتفى بالله ربًا، فلا يميل قلبه ولا يلتفت إلى شيء، لأنه وجد كفايته الكاملة في الله.